فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البحث الخامس: في سر تكرار: {إِيَّاكَ}:

فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارًا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه.
وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدًا إذا لم يكن معمولًا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدًا، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال: إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لابد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه.

.البحث السادس: في سر إطلاق الاستعانة:

فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضًا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب الكشاف: الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: {اهدنا} بيانًا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا {اهدنا الصراط المستقيم} وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، ووجه التخصيص حينئذٍ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس.
{إِنَّ النفس لأمَّارَة بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} [يوسف: 3 5] والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمنًا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل، والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولًا أوليًا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله.
وأيضًا طرق الضلالات التي يستعاذ منها ب {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها.
وأيضًا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذًا توافق الاستعانة في العموم.
وأيضًا قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مطلق شامل كل إنعام، وأيضًا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحدًا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: «إذا استعنت فاستعن بالله» الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه:
إليك وإلا لا تشد الركائب ** ومنك وإلا فالمؤمل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيع ** وعنك وإلا فالمحدث كاذب

. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

{إياك} مفعول: {نعبد} وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس: نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك، ولتقديم ما هو مقدَّم في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولًا وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادة صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَة شريفة إليه، وَوُصْلَة بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالًا من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهر لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التّوبَة: 40]، على ما حكاه عن كليمه حيث قال: {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 62]، أي: حيث صرّح بمطلوبه، و: {إياك} مفعول: {نستعين} وقدّم أيضًا للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في: {إياك نعبد}. وكرّر الضمير ولم يقل: إياك نعبد ونستعين؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك: بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي- أبلغ وأمدح من قولك: بك أنتصر وأحتمي... إلخ؟
وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال: أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضًا: من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضًا: لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحًا واعتدادًا منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله: {وإياك نستعين} دفعًا لذلك التوهم.
والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّد، أي: مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات.
والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين. أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.
يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميمًا لتعليم عباده: فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا: {إياك نعبد وإياك نستعين} وكأنه- جلّ جلاله- لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها؛ لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولًا بالإيجاد، وثانيًا بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِد وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي: ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، لكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عيانًا، والمعقولَ مُشاهَدًا، والغيبة حضورًا، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عيانًا ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطًا للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ} [يُونس: 22]، ولم يقل بكم وقوله: {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ} [فَاطِر: 9]، أي: ولم يقل: فساقه... انظر تمام كلامه.
والالتفات هذا في قوله: {إياك نعبد} ولم يقل: إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضرًا.
قال الأقليشي: فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فإذا قال العبد: {إياك نعبد وإياك نستعين}، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ» معناه: أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال: «فهذه بيني وبين عبدي».
قال ابن جُزَي: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك.
{الإشارة} لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضًا وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: {إياك نعبد} شريعة، {وإياك نستعين} حقيقة، {إياك نعبد} إسلامًا، {وإياك نستعين} إحسانًا، {إياك نعبد} عبادة، {وإياك نستعين} عبودية،{إياك نعبد} فَرْق، {وإياك نسعتين} جَمْع. اهـ.
وإن شئت قلت: {إياك نعبد} لأهل العمل لله وهم المخلصون، و: {إياك نستعين} لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيام بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر، قاله القشيري.
ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام: قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله: {إياك نعبد} وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله: {إياك نستعين} وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} وبالله التوفيق. اهـ.